في ظل مجتمعٍ تتسارع فيه التحديات، وتزداد فيه المؤثرات حول الأبناء، أصبح عاتقُ التربية كبيرًا، ومسؤولية دقيقة تتطلب توازنًا بين المشاعر والعقل، بين الحنان والانضباط، بين الحب والتقويم.
فإن الحنية لا تعني ضعفًا أبدًا، ولا يعني الحزمُ القسوة، إنما هما جناحان لا تكتمل التربية السليمة إلا بهما.
في هذا المقال، سنتناول بعض النقاط، أهمها: كيف نحب أطفالنا دون أن نفسدهم بكثرة الدلال؟ كيف نفرض عليهم الالتزام والحزم دون أن يصبحوا معقدين، ونكسر شوكتهم، فينشؤوا ذوي شخصية قوية، وثقة بالنفس، ويشعروا بالأمان في كنف أسرة متوازنة.
التوازن مفتاح حب الأبناء الحقيقي
خيطٌ رفيع بين الحب الحقيقي البنّاء، وبين الحب المُفسد الذي يؤدي إلى الدلال وبناء شخصية ركيكة لا يُعتمد عليها، شخصية تُملَى عليها الأوامر.
أما عن الحب الحقيقي للطفل، فهو ما يُعطيه الثقة، ويجعلنا نتقبله في كل حال وكل سلوك، ثم نقومه عند القيام بسلوك يحتاج إلى تعديل. لا نخشى من قول كلمة “لا”، بل إن هناك حدودًا واضحة وثابتة لا يتخطاها، وهناك مسؤوليات تقع على عاتقه، عليه تنفيذها. لغة الحوار الدائرة بيني وبينه تبني علاقة متينة بلا تدليل مادي، فالتوازن هو قلبٌ محب، ويدٌ حازمة، وعقلٌ واعٍ.
فالأبوة توجيه، وأسلوب يقوم على دمج دفء العاطفة مع وضوح القواعد والانضباط، ويميز بين الصلابة، ويعتمد على التحفيز الإيجابي بلا تخويف.
إنّ التربية الإسلامية تقوم على التوازن الدقيق بين الحنية والحزم، فالله سبحانه وتعالى أمر بالرحمة واللين، كما قال في كتابه الكريم: (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ”) آل عمران: 159.
فكانت الرحمة سِمةً من سمات النبي ﷺ في تعامله مع الأطفال، إذ كان يُقبّل الحسن والحسين، ويُلاعبهما، ويُطيل سجوده رحمةً بطفلٍ كان يركب على ظهره. وفي المقابل، لم تغب عنه الحزم والتوجيه، فكان يُعلّم ويرشد، ويُصحّح الخطأ برفق ولكن بثبات، ليغرس في نفوس النشء القيم والانضباط.
فالتربية الناجحة لا تكون بالتساهل المُفرط الذي يُفسد، ولا بالقسوة المُفرطة التي تُنفر، بل بالتوازن الذي يجمع بين القلب والعقل.
فقد كان رسول الله ﷺ أرحم الناس بالأطفال، يُقبّلهم، ويُلاعبهم، ويحتضنهم، كما في حديث الأقرع بن حابس حين رأى النبي ﷺ يُقبّل الحسن، فقال: “إن لي عشرة من الولد ما قبّلتُ منهم أحدًا”، فقال له النبي ﷺ: “من لا يَرحم لا يُرحم” [البخاري]. هذه الرحمة لم تكن ضعفًا، بل كانت بابًا للتقويم.
وفي موقف آخر، رأى النبي ﷺ الحسن يأكل تمرة من تمر الصدقة، فوضع أصبعه في فمه وأخرجها، وقال له برفق وحزم: “كِخْ كِخْ، أما علمت أنّا لا نأكل الصدقة؟” [مسلم]. فهذا الموقف يُظهر كيف كان ﷺ يُوجّه الطفل وهو لا يزال صغيرًا، بحزم تربوي، دون عنف أو تجريح.
كما ورد عنه ﷺ أنه قال: “مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر” [أبو داود]، وهذا يُظهر كيف يكون الحزم تدريجيًا بعد التوجيه المتكرر والرحيم، وليس فورًا أو بعنف.
فبهذا النهج النبوي، يمكن للوالدين أن يجمعوا بين دفء المشاعر وقوة الشخصية، ليُنشئوا جيلًا متوازنًا نفسيًّا وأخلاقيًّا، يُحب الخير، ويحترم القواعد، ويخشى الله في السر والعلن.
حزمك الآن هو الشخصية القوية لاحقاً
بتعليم الطفل المسؤولية حسب عمره، تصبح أولى الخطوات نحو شخصية قيادية قادرة على التصرف في أي موقف، شخصية تعرف ما لها وما عليها، ويستجيب عند قول “لا” حينما يجب أن تُقال.
يعرف أن هناك قوانين لا يمكن تغييرها، فهي ليست بابًا مُقفلًا يُفتح في أي وقت، بل هي جدار ثابت يُبنى.
والطفل الذي تربّى على الحنية، يكبر بقلبٍ سليم، ولسانٍ مهذّب، وشخصية متزنة، لا خائفة ولا متسلطة.
فالحب بحكمة هو ما يحتاجه الطفل ليشعر بالأمان، والاحتواء، والدعم؛ لا الدلال الذي يشبع فقط رغباته فورًا، أو تجنّب قول “لا”، ولا أن أجعل الطفل مركز العالم دون وعي بالعواقب عليه.
فنحن نريد بناء شخصية متزنة، لا متقلّبة.
ختاماً
يظن البعض أن عليهم الاختيار بين الحزم أو الحنية، بينما في الحقيقة كلاهما مهم. فالحنية تمنح الأمان والثقة، والحزم يُعلِّم الحدود والانضباط.
الطفل لا يحتاج والدًا صارمًا يُخيفه، ولا والدًا ليِّنًا يُرضيه في كل وقت وكل شيء، بل قلبًا يحتويه، وعقلًا يُرشده، وحدودًا تحميه. فليكن صوتك هادئًا، ولكن ثابتًا، وعانق الطفل بعد التوجيه، لا بدلًا عنه، ولتعلم أن بناء إنسانٍ سويّ يبدأ حين تحسن الموازنة بين حبك له، ومسؤوليتك تجاهه.